مع نهاية الحرب العالمية الثانية التي استمرت من
عام 1939م إلى عام 1945م، فقدت غالبية المدن الألمانية كل معالمها، فلا
بيت واقف في مكانه، ولا شوارع ولا ميادين، ولقي عشرون مليون شخص مصرعهم،
وأصبح اثنا عشر مليون ألماني شريدًا بعد طردهم من ديارهم في شرق أوروبا
وكان هناك ثمانية ملايين أسير في معتقلات قوات الحلفاء،
بل إن السوفيت احتفظوا بالأسرى حتى عام 1956م في معسكرات عمل لديهم، ليصلحوا ما هدمته قواتهم النازية.
أما الولايات المتحدة وبريطانيا «فأهدتا» فرنسا مليون أسير ليقوموا بالمهمة نفسها.
وفوق ذلك هاجمت طائرات الحلفاء في يومي 13و 14 فبراير 1945م مدينة دريسدن،
وقتلت 35 ألف مدني، حرق من تبقى من السكان جثثهم في سوق المدينة.
فهل يمكن أن تقوم لدولة قائمة بعد كل ذلك؟
الزعيم النازي أو (الفوهرر) أدولف هتلر الذي وعد الألمان، حين انفرد
بالحكم في عام 1934م بأن يجعل من أوروبا «منطقة سكن خاصة بشعبه الآري
المتميز»، الذي يجب أن يتكاثر ليصبح عدده 100 مليون نسمة، وبشرهم بأنه
سيوفر لهم فرص العمل والرخاء والصناعة والتقدم، هو الشخص نفسه الذي أمر في
آخر أيامه فيما يعرف بـ (أمر نيرو) بتدمير جميع المنشآت الاقتصادية، «لأن
الشعب الألماني خسر في معركة الحياة»، وهو نفس القائد الذي وقف جنوده في
وجه الهاربين من الألمان المدنيين، الخائفين من انتقام وبطش دول شرق
أوروبا التي تعرض سكانها للذل على يد القوات النازية من قبل، فتسببوا في
مصرع الكثير من هؤلاء الألمان الهاربين.
تمزقت ألمانيا بعد الحرب إلى أربع مناطق احتلال بريطانية، وأمريكية،
وفرنسية، وسوفيتية، تفعل بها سلطات الاحتلال ما تشاء، وتكفي الإشارة إلى
أن فرنسا كانت تأخذ الفحم الألماني لتوفر التدفئة لمواطنيها، في حين تعرض
الألمان في شتاء 1946م ـ 1947م لموجة برد بلغت 30 درجة تحت الصفر، تسببت
في كوارث إنسانية لا توصف، أما السوفيت فلم يكتفوا بذلك، بل كانوا يقومون
بتفكيك المصانع والمعدات من الأراضي الألمانية، لنقلها إلى بلادهم. في
منطقة الحكم البريطاني كانت هناك سكك حديدية بطول13 ألف كيلو متر، لم تترك
منها قنابل الحلفاء سوى 1000 كيلو متر صالحة للاستعمال، بحيث لم يكن نقل
الفحم أو غيره من منطقة إلى أخرى واردًا، خصوصًا أن قوات الاحتلال اعتبرت
أن نقل البضائع من منطقة إلى أخرى «نوع من التصدير من صلاحيات قوات
الاحتلال وحدها».
طبعت مشاهد متكررة صورة كل المدن بعد الحرب نسوة يرفعن الأنقاض، وأخريات
يستولين على الأراضي المحيطة ببوابة براندنبورج القائمة في العاصمة برلين،
ليزرعن فيها الخضراوات التي تسد رمقهن، في ظرف غياب الرجال، إما أسرًا،
وإما موتًا، وأطفال أوكلت إليهم أمهاتهم مهمة الوقوف أمام مناجم الفحم،
للهجوم على سيارات النقل الخارجة، وسرقة ما تيسر من حمولتها من الفحم
للتدفئة.
لم تكتف قوات الاحتلال بتقسيم ألمانيا ونهب ما تبقى فيها من أساسيات
الحياة، بل قررت «إعادة تربية الألمان» بحيث يتخلصون من النازية والنزعة
العسكرية، ويتعلمون الديموقراطية والحياة السلمية، كما قررت معاقبة
النازيين،
فجرى تصنيفهم إلى خمس مجموعات، متهمين أساسيين، ومذنبين، ومذنبين جزئيًا،
وتابعين، وغير مشاركين فعليًا. ويكفي أن ثلثي سكان ولاية بافاريا الجنوبية
وحدها تعرضوا للمساءلة، وجرى إقالة 90 % من العاملين في سلك القضاء،
وإغلاق المدارس حتى يتم «تطهير مناهجها والقائمين عليها من الفكر النازي»،
وكذلك إلغاء دور النشر ووسائل الإعلام كافة، ثم العودة لانتقاء صحفيين
يكتبون في ظل وجود رقيب من قوات الاحتلال، يقرر ما ينشر مما يكتبون. لقد
أقسم لي موظف رفيع المستوى إنه وأسرته كانوا في فترة ما بعد الحرب
العالمية الثانية، ينتظرون بفارغ الصبر انتهاء الزبائن من تناول القهوة،
في حطام مقهى والده ليلعقوا ما تبقى في الفنجان.
وتذكر كتب التاريخ أن العملات التي كانت متداولة في فترة ما بعد
الحرب ثلاث: - مارك الرايخ، أي العملة التي كانت مستعملة في أثناء الحرب،
والتي كانت قد فقدت قيمتها، لأن الحكم النازي طبع 300 مليار مارك الرايخ،
دون وجود ما يوازي تلك القيمة. - عملة طبعتها قوات الاحتلال لتسري في
التعامل المشترك بين منطقة الاحتلال وهذه القوات، وهي عملة غير قابلة
للاستبدال بمارك الرايخ. - السجائر الأمريكية، وهي العملة الوحيدة التي
كانت قادرة على شراء كل شيء. كما تؤكد أن السوق السوداء كانت متفشية بدرجة
لا يمكن تصورها، حتى إن الموظف كان لا يذهب إلى العمل إلا ثلاثة أيام،
ويبقى يومين في السوق يقايض ممتلكاته بما يحتاج، فكانت النساء يبادلن
معاطفهن من الفراء بالخبز والسكر، ويأخذن دقيقًا مقابل أحذيتهن. أما من
الناحية الاجتماعية فتشير الدراسات إلى أن المجتمع الألماني كان يعاني في
المقام الأول، انهيار كل القيم التي كان يؤمن بها من قبل، فالزعيم الذي
كان رمزًا للقوة، انتحر بالسم مع صديقته وكلبه (يوم30/4/1945م) هربًا من
المسؤولية، وفعل الكثير من القادة مثله، أو حكمت عليهم المحكمة الدولية
لمجرمي الحرب في مدينة نورمبيرج (في الفترة من 20نوفمبر 1945م حتى 16
أكتوبر 1946م)، بالإعدام أو السجن مدى الحياة. علاوة على أن قدوم الملايين
من النازحين من شرق أوروبا في الأزمة الطاحنة بعد الحرب، زاد من تفاقم
الموقف، علاوة على أن هؤلاء (الألمان الغرباء)، كانت لهم من العادات
والتقاليد ما لم يكن مألوفًا لدى السكان الأصليين. أشارت الأصابع إلى
الجنود الألمان متهمة إياهم بأنهم تسببوا في قتل 50 مليون شخص في مختلف
بلاد العالم، وطالبت 20 دولة بالحصول على التعويضات، وجرى الكشف عما يعرف
باسم (الهولوكوست)، أي معسكرات القتل الجماعي ـ والتي لم تقتصر على اليهود
كما يظن الكثيرون، بل كانت فيها أعداد كبيرة من مجموعات الغجر (السنتي
والروما) ـ والتي يقال أن ما يقرب من ستة ملايين شخص لقوا مصرعهم فيها،
بمختلف الطرق بما فيها الحرق في أفران أعدت لذلك. يضاف إلى هذه الاتهامات
ما يروج له الكثيرون من أمثال العالم اليهودي دانيال جولدهاجن، من أن
«الشعب الألماني بأكمله كان مجرمًا لدعمه للنازية عن سعة صدر، وأنه حتى من
لم يشارك منهم في قتل اليهود ليس بريئًا من الجرائم، لأنه لو كانت الفرصة
قد واتته لقتل أيضًا». كانت هناك خيارات عديدة أمام الألمان بعد الحرب،
منها البكاء على أطلال ألمانيا، والشعور بأنهم ضحايا، ومن ثم فقدان الرغبة
في الحياة، أو خداع النفس وتسمية الهزيمة أسماء مزيفة مثل «النكسة» أو
«الكبوة»، أو «أم المعارك»، وعندها كان من الممكن فهم تمسك الجماهير
بالقائد المسؤول عن الهزيمة، حتى لو طلب ـ في شكل مسرحي ـ التنحي عن
السلطة. أما الخيار الذي قرر الألمان التمسك به، فهو الاعتراف بالمسؤولية،
دون أن يعني ذلك مطلقًا التهاون في حقوقهم، أو التخلي عن حقهم في المشاركة
في تحديد مستقبلهم، وهذا هو الدرس الأول. ومما لاشك فيه أن رفض الرئيس
الأمريكي روزفلت لمشروع مورجنتاو بجعل «ألمانيا دولة زراعية فقط»، ووجود
قناعة لدى البريطانيين والأمريكيين بأنه لا يجب أن يتكرر خطأ ما بعد الحرب
العالمية الأولى، حين فرضت القوات المنتصرة على ألمانيا قرارات مهينة، ما
جعلها تتحين الفرصة للانتقام. ولذلك عرض وزير الخارجية الأمريكي جورج
مارشال في عام 1947م المشروع المعروف باسمه لدعم دول أوروبا، فاتهمه وزير
خارجية الاتحاد السوفيتي مولوتوف، بأن «الولايات المتحدة وبريطانيا تسعيان
لاستعباد ألمانيا بهذه المساعدات». ورغم إدراك الألمان منذ البداية أن
الأمريكيين «لم يفعلوا ذلك من أجل زرقة أعينهم، بل لأنهم يسعون إلى
الحيلولة دون تفشي الشيوعية في غرب ألمانيا، كما حدث في شرقها، علاوة على
أن قبول هذه المساعدات مشروط بالتعاون مع بقية الدول المتلقية للمساعدات،
بهدف الحفاظ على الاستقرار في أوروبا على المدى الطويل، وأن هذا التصرف
نابع من فكر تاجر ماهر، يستثمر أموالاً يعرف أنها ستعود إليه مستقبلاً»،
فإن المسؤولين الألمان رحبوا بقبول تلك المساعدات، من ناحية لعدم وجود
بدائل أخرى أمامهم، ومن ناحية أخرى لأنهم كانوا قد عثروا على الخطة
الطموحة للمستقبل. وهذا هو الدرس الثاني، أي عدم المكابرة عن قبول
المساعدة في وقت الحاجة الماسة، من أقل الأعداء سوءًا، بشرط أن تتفق مع
حساباتك، وأن تكون المساعدة هي الاستثناء لا القاعدة، بهدف الاعتماد على
القدرات الذاتية في أقرب حين. ( لا أن تصبح بندًا ثابتًا في ميزانية
دولتك، دونها لا يجد شعبك ما يأكله، ويصبح كل عضو كونجرس صاحب فضل عليك
وعلى كل أفراد شعبك). وبلغ إجمالي ما حصلت عليه ألمانيا من مشروع مارشال
حتى عام 1952 ما مجموعه 3 بلايين مارك ألماني، ويرى الكثيرون أنه «دون هذا
المشروع ما كانت المعجزة الاقتصادية لتتحقق»، أو على الأقل في هذا الزمن
القياسي. الخطوة التالية كانت في إجراء الإصلاح النقدي، إذ فوجئ الألمان
في يومي 18 و19 مايو 1948م بالكشف عن هذا الإصلاح والذي كان يقضي بإلغاء
عملة مارك الرايخ واستبداله بالمارك الألماني، وذلك بأن يحصل كل مواطن يوم
20 مايو 1948م على 40 ماركًا ألمانيًا مقابل 40 ماركًا رايخًا، ثم 20
ماركًا أخرى في أغسطس من العام نفسه، وتبديل المدخرات بمعدل 10 ماركات
رايخ مقابل مارك ألماني، وإلغاء ديون الدولة. كان البرلمان الألماني قد
انتخب في 2 مارس 1948م أستاذ الاقتصاد لودفيج إيرهارد وزيرًا للاقتصاد في
منطقتي الاحتلال البريطانية والأمريكية، والذي قرر في 24 يونيو 1948م ـ
حتى دون الرجوع إلى ممثلي سلطات الاحتلال ـ فرض مجموعة من القوانين للقضاء
على السوق السوداء، والإلغاء التدريجي لتوزيع السلع الغذائية تبعًا لحصص
تموينية لكل مواطن. وفجأة ارتفعت أسعار السلع بشدة مقابل انخفاض الرواتب
بعد الإصلاح النقدي، وأصبح الموظفون هم أكثر طبقات المجتمع معاناة، فدعت
النقابات العمالية للقيام بإضراب عام في يوم 12 نوفمبر من العام نفسه
«احتجاجًا على الفوضى العارمة في سوق البضائع، بسبب الهوة بين الرواتب
والأسعار»، وشارك نحو تسعة ملايين شخص في إضراب لمدة 24 ساعة شل جميع
جوانب الحياة، ودعت الغالبية العظمى من وسائل الإعلام إلى «إقالة إيرهارد
الفاشل»، وطالبت المعارضة في خريف 1948م مرتين بسحب الثقة منه. ولكن بعد
مرور ستة أشهر فقط أصبح إيرهارد، الدافع الرئيس لانتخاب المواطنين للحزب
المسيحي الديموقراطي والحزب المسيحي الاجتماعي، لتولي مقاليد الحكم، بعد
أن تبين أن «المعجزة الاقتصادية قد بدأت تؤتي ثمارها، وأن إيرهارد هو أبو
هذه المعجزة». وهذا هو الدرس الثالث، أن لا تقف في وسط الطريق، وتشق
طريقًا جديدًا. وما دمت قد وصلت منصبك مستندًا إلى الشرعية، فلا تتراجع عن
الطريق الذي تأكدت من صوابه، مادمت تستطيع ذلك. وبمرور الوقت توصل الألمان
إلى صناعة معدات أفضل بكثير من التي نقلها السوفيت إلى بلادهم، وأصبحت فرص
العمل في مصانعهم أكثر من حاجتهم، فجلبوا العمال الأجانب، وأصبحت بلادهم
أكبر قوة اقتصادية في أوروبا بأسرها، ولكن ذلك لم يلههم عن هدفهم الأكبر،
وهو عودة وحدة شطري ألمانيا، وهي السياسة التي مهد لها المستشاران
الأسبقان فيلي براندت وهيلموت شميدت، وتحققت في عهد المستشار السابق
هيلموت كول في عام 1990م، بعد مفاوضات 2+4، أي الألمانيتين مع القوات
المنتصرة الأربع في الحرب العالمية وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا
والاتحاد السوفيتي، بعد موافقتهما على الشروط التي من أصعبها التنازل عن
الأراضي الألمانية الخصبة الواسعة، التي حصلت عليها بولندا عام 1945م عند
حدود نهري الأودر والنايسه، تعويضًا عن الأراضي البولندية التي ضمها
الاتحاد السوفيتي إلى أراضيه بعد زحزحة الحدود في نهاية الحرب العالمية
الثانية. وهذا هو الدرس الرابع: وهو أن خمسة وأربعين عامًا ليست طويلة في
عمر التاريخ، مادام لم يغب الهدف عن الأعين. والدرس الخامس هو: الاستعداد
لتقديم تنازلات محدودة مقابل الحصول على الهدف الأكبر. وأخيرًا: يتهم
بعضهم ألمانيا بأنها عملاق اقتصادي، ولكنها قزم سياسي، خصوصًا في قضايا
الشرق الأوسط، إلا أن ما يثبت عكس هذا الادعاء هو موقف ألمانيا الأخير من
العراق، ورفضها تأييد الولايات المتحدة في القيام بعمليات عسكرية هناك،
رغم تهديدات واشنطن لبرلين بالعواقب السيئة لذلك التصرف على العلاقات
معها، علاوة على رفض ألمانيا ـ الفريد من نوعه ـ تزويد إسرائيل بمعدات
عسكرية هجومية، خشية استخدامها في الاعتداء على الفلسطينيين في الأراضي
المحتلة، وما يعنيه ذلك من انتهاك لحقوق الإنسان هناك. وإذا كان المستشار
الألماني جيرهارد شرويدر قد طالب مواطنيه في كلمته لهم بمناسبة حلول العام
الميلادي الجديد بأن يستعدوا للتضحيات في مواجهة الصعوبات الاقتصادية التي
تواجهها بلاده، في ظل ارتفاع معدلات البطالة إلى أكثر من 4 ملايين شخص،
وارتفاع نسبة المسنين مقابل انخفاض نسبة المواليد، ما يعني أن ما تنفقه
الدولة على معاشات كبار السن لا يقابله دخل من ضرائب جيل العاملين،
وارتفاع نفقات التأمينات الصحية، وتكاليف مساعدات البطالة عن العمل
وارتفاع أسعار النفط بسبب أزمة العراق، وتوقع ضخامة تكاليف توسيع الوحدة
الأوروبية، إلى جانب أن ألمانيا أكبر الدافعين لخزانة الاتحاد الأوروبي،
فهذا ما يقودنا إلى الدرس السادس والأخير: لا يجب أن تكون أحكامنا مطلقة،
فحتى ألمانيا لا يصح أن نطلق عليها مصطلح العملاق، وليس كل ما فيها قابلاً
للتطبيق عندنا، وليست مثلاً أعلى في كل المجالا