خف رئيس السقاة راجعاً لمليكه حاملاً تأويل رؤياه فسر بها، وعلم أنه تأويل
مناسب، فقال لاملك ائتوني بيوسف، فلما أرادوه على ذلك أبى أن يخرج من
محبسه حتى يعرف أمره على جليته وطلب يوسف إلى الرسول أن يعود لمليكه ويسأل
النسوة اللاتي قطعن أيديهن (صاحبات امرأة رئيس الشرطة) ولا بد أن يكون قد
سماهن، فلما حضرن سألهن عن شأن يوسف، فقلن: حاش لله ما علمنا عليه سوءاً،
وأنكرن أن يكن سمعن شيئاً عن شأنه وأمر زوجة العزيز. يمكن أن يفهم قولهن
هذا على أنهن لم يسمعن عن يوسف شيئاً حينئذ يكن قد أنكرن الشهادة ولم
يؤدين ما طلب يوسف وهو الشهادة بما سمعنه من امرأة العزيز وتوعدها يوسف
بالسجن إذا لم يصدع بأمرها، وفيه يكن قد خيبن أمل يوسف فيهن). فإن عدم
علمهن بالسوء عليه لا يجعله بريئاً في الواقع، وهذه شهادة نفي لا تثبت بها
الوقائع التي أراد يوسف إثباتها . رأت امرأة العزيز (رئيس الشرطة) أن لا
منجاة لها حين أراد الملك اختيار يوسف له وأن الله أكرمه، وأن تماديها في
الاتهام بما لم يصنع يوسف، بعدما رمته بما منه براء، فأٌرت مغلوبة على
نفسها وباحت لزوجها وآلها بما كتمته سنين عدة . فقالت: (الآنَ حَصْحَصَ
الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ
وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ). بهذا الإقرار الدال
على صدق يوسف وبراءته مما اتهم به ظلماً ما كان يظن أن يصدر من زوج العزيز
التي جنت عليه وأدخلته السجن دون جريرة، لم يعد في حاجة لجمع الأدلة
والبراهين على أنه حبس ظلماً. حين ظهرت براءة يوسف لفرعون، خرج يوسف واضح
الحجة مستقيم الحجة.
قال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي. فجاء للملك وكلمه سر الملك به وأعجبه
عقلهن وسأله عما يرضيه عملاً له ويكون فيه سروره؟ فقال يوسف: (قَالَ
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) .التفت
فرعون إلى يوسف وقال له: بعد ما أعلمك الله كل هذان ليس بصير وحكيم مثلك
أنت تكون على بيتي، إلا أن الكرسي أكون فيه أعظم منك. وقال له الملك: قد
جعلتك على كل أرض مصر، وخلع خاتمه من يده وجعله في يد يوسف وألبسه طوقاً
من ذهب وأركبه مركبته الثانية، ونادوا على الناس أمامه بالركوع له، وسمي
يوسف * صفنات فعنيح * بلغ يوسف عليه السلام ثلاثين عاماً حين ذلك الحادث
فخرج وارتحل متفقداً كل أرض مصر ليقف على الأحوال وتهيئة الأعمال اللازمة
لمقاومة الجوع والقحط في البلاد.
مرت السبع المخصبة وأعد يوسف عدته فيها، واتخذ الخزائن لخزن الغلات في
غلفها. ثم جاءت السبع المجدبة فاشتد الجدب في جميع الأنحاء من الأرض - ذهب
المصريون لفرعون يطلبون القوت فأحالهم على (صفنات فعنيح) يوسف، ففتح
المخازن وباع لهم ما يكفيهم من الطعام. أحس أهل فلسطين الجوع فعلموا أن
الطعام بمصر، فأرسل يعقوب أولاده ومعهم الدواب لحمل الطعام وأعطاهم الثمن،
فقدموا إلى مصر لشراء قوت أهلهم فلما قدموا إلى مصر رآهم يوسف فعرفهم ولم
يعرفوه. باع يوسف ما احتاجه إخوته من مؤن، وقال لهم إئتوني بأخ لكم من
أبيكم أعاملكم وأبيع لكم ثانية، فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم ولا تأتوا
إلى. رأى يوسف إخوته جميعاً إلا أخاه شقيقه من أمه ويعقوب (بنيامين) وهو
أصغر منه .عاد أخوة يوسف لأبيهم وأخبروه أن (وزير التموين والتجارة) منعهم
الشراء من الطعام فيما بعد حتى يأتوه باخيهم، فتذكر يعقوب ما جرى ولوعته
على يوسف فقال لهم (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا
أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ). شد القحط والجدب الذي عم الأنحاء جعل يعقوب
يرضى بذهاب ابنه وأوصى أبناءه ألا يدخلوا من باب واحد إذا أتوا مصر، حتى
لا يظن بهم أنهم جواسيس أو استطلاع لمن واءهم ممن يريد الإغارة على البلاد
من الأقوام التي عضها الجوع والقفر والجدب.
وصل أخوة يوسف أرض مصر، فلما رأى يوسف أخوته ومعهم بنيامين أمر رجاله
بإضافتهم وأن يهيئوا طعاماً لأكله معهم وقت الظهر. ولما جاء يوسف وقت
الغداء قدموا إليه الهدايا، ونظر إلى بنيامين وقال: أهذا أخوكم الصغير
الذي قلتم لي عنه؟ ودعا قائلاً الله ينعم عليك يا بني! ولم يطق يوسف
الجلوس معهم لما حضره من الحنين لأخيه فذهب منفرداً وبكى ثم عاد وسألهم عن
أبيه. ثم قدم إليهم الطعام، وأكل وحده.
أمر يوسف بتجهيز أخوته وأن توضع فضة كل واحد في عدله وتوضع طاسة في عدل
الصغير، التي كان يشرب فيها، فساروا غير بعيد ففاجأهم وكيل يوسف يناديهم
ويوبخهم على ما صنعوا وأنهم قابلوا الإحسان بالجحود وأنهم سرقوا سقاية
الملك (يوسف) فأظهروا البراءة وقالوا: من وجدت سقاية الملك في رحله يؤخذ
عبداً للملك. ففتش أعدالهم. فوجد السقاية في رحل بنيامين، فاستعطفوا يوسف
فلم يقبل وقال يؤخذ الذي وجد الطاس في عدله عبداً لي. فقالوا بوجود يوسف:
قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل, أي يوسف فقد سرق لأبي أمِّه صنماً من
ذهب فكسره لئلا يعبده (فأسرَّها يوسف في نفسه ولم يبدها) يظهرها (لهم)
والضمير للكلمة التي في قوله (قال) في نفسه (أنتم شرٌّ مكاناً) من يوسف
وأخيه لسرقتكم أخاكم من أبيكم وظلمكم له (والله أعلم) عالم (بما تصفون).
عاد أخوة يوسف عدا أكبرهم وأصغرهم إلى أبيهم وأخبروه بالأمر على جليته،
فأحاله على تدبير منهم كما دبروا ليوسف من قبل فزداد حزنه حتى ابيضت
عيناه، فقالك يا أسفا على يوسف! أمر يعقوب أولاده بالعودة لمصر ليتحسسوا
شأن يوسف وأخيه وأمرهم بعدم اليأس من روح الله، فذهبوا كما أمرهم.
جاء أخوة يوسف و (قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا
الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ
وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) فقال لهم
يوسف مذكراً بما كان منهم من الإساءة: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا
فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ). كلمهم بلغتهم
أول مرة، فعرفوا أنه يوسف لذلك (قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ
أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن
يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)
(اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ
بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِين ).
شد يعقوب وآله أجمعون رحالهم لمصر، فدخلوا على يوسف فآوى أبويه (يعقوب
وزوجته:- خالة يوسف) وسجد له أبوه وخالته وأخوته الأحد عشر. قال يوسف
لأبيه يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً. وقد أحسن بي إذ
أخرجني من السجن وجعلني على خزائن الأرض، وجاء بكم بعد أن نزغ الشيطان
بيني وبين إخوتي وهذا كله من لطف الله بي وبكم إن ربي لطيف لما يشاء إنه
هو العليم الحكيم. من ذلك بمخيلة يوسف فجاء يشكر الله تعالى معلناً نعمته
عليه بما منحه من علم وملك داعياً الله تعالى أن يتولاه في الدنيا
والآخرة، وأن يتوفاه مسلماً (أي مطيعاً) لله غير عاص ولا آثم وأن يلحقه
بالصالحين من آبائه الأنبياء.