(أثر وتأثير وإرث وموروث وتراث)
ربّما جاء هذا الموضوع
متأخرا بعض الشيء على ميعاد حلول الذكرى الثامنة الخالدة لرحيل الشاعر
القطب السيّد حسين أبو بكر المحضار، لكنّ ما يشفع لي هو أن المحضار حاضر
معي في روحي وعقلي ووجداني في حياته وبعد مماته، ففي كلّ يوم يطلع شمسه
فانّ للمحضار ذكرى في قلوب محبيه والناس أجمعين. حتى من قبل طلب الاخوان
الأحباء فقد كنت أعدّ العدّة وأستعدّ للكتابة عن السيّد المحضار ورفيقه
محمد جمعه خان وصديقه أبو بكر سالم بالفقيه فالمحضار وسيرته من مشاريعي
التي تشمل أيضا شيخ الشعراء يحي عمر وأمير الشعراء القمندان وشاعر الشعراء
الفضول وثائر الشعراء سبيت ومجموعة من أفذاذ الشعر الحميني التليد. وعندما
بدأت بشيخ الشعراء يحي عمر لم أكمل العمل وتوقفت في نصف الطريق بعد أن
رأيت أنه بالامكان تقديمه بصورة أفضل ممّا قدمته عليها، لكنّ الوقت كان
أكبر عدو لي فلم أنجز وأتمّ ما بدأته وعرجت على سبيت بذكرى وفاته مستعجلا
فلم أوفي الرجل حقّه كما ينبغي وبالرغم من تجهيزي بعض المعلومات عن أمير
الشعراء القمندان والفضول وبقية فحول الشعر الحميني الاّ أنّي فضّلت
التأني بالأمر .. وعندما جاء ذكر سيّد الشعراء حسين أبو بكر المحضار لم
أتمالك نفسي وقلمي وأوراقي من الوقوف على قطرة من قطرات علم ومعرفة هذا
الرجل العظيم. مهما قلت عنه أو فعلت أو كتبت فقد سبقني إلى ذلك من قال
وفعل وكتب بأحسن منّي وسوف يلحق من بعدي من يقول ويفعل ويكتب عن سيّد
الشعر واللحن والكلمة ويأتي بما لم تأتي به الأوائل. ليس في عملي هذا عمل
مؤرخ لرجل تأريخي لكنه عمل يتحدّث للأجيال عن تأريخ رجل صنعه بنفسه من علو
شأن ورفعة مقام.
عرف الجميع وتعرّف على شاعرنا
الكبير الراحل السيّد حسين أبو بكر المحضار من أبيات شعره لكنّ عدد قليل
منهم سمعوا او استمعوا إلى صبابته في الغناء وهذه واحدة من نادرات
التسجيلات الصوتية للشاعر المحضار في جلسة خاصة ضمّت معه أيضا رفيقه
وصديقه أبو أصيل، أغنية يا مسافر على لبلاد يؤديها المحضار مع شلّة أنسه..
وأشكر بهذه المناسبة من رفع هذه الأغنية في موقع أبو أصيل ويعود رفعها إلى
الأخ ابن الغنّاء مشكورا.
الأغنية في المرفقات
نسبه:
يرجع المرحوم
السيّد المحضار بنسبه الى السادة الأشراف من بني هاشم فهو السيّد حسين بن
أبوبكر بن حسين بن حامد بن أحمد بن محمد بن علوي بن محمد بن طالب بن علي
بن جعفر بن أبوبكر بن عمر المحضار بن الشيخ أبوبكر بن سالم بن عبد الله بن
عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد مولى الدويله بن علي بن
علوي بن محمد الفقيه بن علي بن محمد بن علي بن علوي بن محمد بن علوي بن
عبيد الله بن أحمد المهاجر بن عيسى النقيب بن محمد النقيب بن علي العريضي
بن جعفر الصادق (رضي الله عنه) بن محمد الباقر (رضي الله عنه) بن علي زين
العابدين (رضي الله عنه) بن الحسين (رضي الله عنه) بن علي (رضي الله عنه)
بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم.
مولده ونشأته:
ولد شاعرنا الراحل السيّد حسين أبوبكر
المحضار في مدينة الشحر عام 1350هـ الموافق 1930م. وقد نشأ في أسرة متصوفة
ذات مكانة معروفة في حضرموت فهو حفيد الشاعر الشعبي المعروف حسين بن حامد
المحضار وجده لأمه الشاعر الشعبي المعروف أيضا صالح بن أحمد خمور كما أن
من جدّه لأبيه الشيخ أبو بكر بن سالم الذي اشتهر بورعه وتقواه وكان يعدّ
من عباد الله الصالحين وأولياءه، نحسبه عند الله من الأولياء ولا نزكي على
ربنا سبحانه وتعالى أحدا من عباده.
درس شاعرنا في مدرسة مكارم الأخلاق
في الشحر، ثم في رباط الشحر حيث أتم دراسة القرآن الكريم وتفسيره والفقه
والتوحيد واللغة العربية والأدب.
شعره:
هو واحد من أبرز شعراء الحمينيات
المتأخرين وربما يذهب بنا القول إلى وصفه بالفارس الأخير وليس بآخر
الفرسان في هذا المضمار الذي استمر السباق فيه والتسابق عليه مدة تزيد عن
الثمانمائة سنة حيث اعتمد المؤرخون بداية ظهور الشعر الحميني في القرن
السادس الهجري مع بروز كبار شعراء التصوّف الذين أثروا هذا المقام بفيض من
أشعارهم التّي حلقت في فضاء رحب يمتدّ من الأندلس غربا حتى السند شرقا،
ويسجّل بعض من المؤرخين أن بداياته ترجع إلى القرن الثاني للهجرة النبوية
الشريفة على صاحبها سيّدنا محمد صلّ الله عليه وسلّم أفضل الصلاة وأزكى
التسليم. شهدت بلاد اليمن ميلاد هذا الشعر حيث شكلت ساحة فسيحة له
ولفرسانه الأشاوس الذين صالوا وجالوا في ميادينه وما يزالوا ولو أنّ بريقه
خفّ بعض الشيء ببروز النثر المرتجل لكنه يظلّ عند الشعراء اليمنيين على
وجه الخصوص ورقتهم الذكيّة وحصانهم الرابح الذي يراهنون عليه حتى اليوم.
العجيب في الأمر أن أسماء الفرسان لا تقتصر فقط على العرب بل نشاهد كيف
زاحم في الحلبة فرسان معدودين من غير العرب وبالأخص الترك من أمثال: سليم
شعبان وابن سناء الملك وحيدر آغا وغيرهم. ومع بداية النهضة الأوروبية في
الغرب لاحظت جليّا ودرست كيف أن كبار الشعراء في الأدب الفرنسي والانجليزي
والألماني وحتى الروسي من أمثال هوجو ولافونتين وشكسبير وغوته ودوستويفسكي
وفي ايطاليا واسبانيا أيضا قد فضلوا سلاسة وتحرّر الشعر الحميني على بلاغة
وقيود الشعر الحكمي (العربي الفصيح). الشاعر الراحل المحضار في تراثه
الحميني كان أقرب إلى فهم عموم الناس لكلماته وتعبيراته مهما اختلفت
مشاربهم عكس بعض فحول هذا الشعر وسدنته وأساتذته الكبار أمثال بن شرف
الدين ويحي عمر والقمندان الذي يصعب فهم معاني بعض الكلمات في معجم
أشعارهم من عامة الجمهور.
ألحانه:
ما يزال هناك أناس في حضرموت يطلقون على
الغناء الحضرمي (الدان)، ربّما كانوا على حقّ في القديم، على الأقل حتى
مجيء المحضار ومع مجيئه بطل ذلك القول لأنّ المحضار بألحانه أخرج الفنّ
الحضرمي من بوثقة الدان الضيقة إلى فسحة واسعة من الغناء الحقيقي. إذ أن
الدان يقتصر على الأهازيج الشعبية والمواويل البدوية من داخل حضرموت مع
بعض التطوير من الشرح الحضرمي في الساحل. كما أنه بالإمكان أداء الدان دون
أية مؤثرات موسيقية وأحيانا يكتفى بنقر الطار أو الطبلة بصحبة الدان.
وعندما ظهر المحضار تغيّر شكل الدان وتحوّل إلى أغنية عصرية حقيقية عرفت
واشتهرت بالأغنية الحضرمية، انّ عبقرية المحضار وعلومه ومعرفته بالشعر
والغناء اليمني خاصة والعربي عامة جعلته يركب ويتنقل ببساط الطيف القزحي
من الألحان اليمانية من حضرمية ويافعية وصنعانية ولحجية وموالد وشلاّت
صوفية وترنيمات دينية وأهازيج بدوية وغيرها ممّا ترددت كثيرا على مسامعه
سواء في الحفلات الشعبية أو في الأعراس وفي كلّ المناسبات الشعرية
والغنائية ليفصّل منها، ويخترع من قريحته فيضيفه إليها، فيسبل على النغم
الحضرمي حلّة مطرزة زاهية ومرصعة بأشجى وأعذب الألحان لتعلن ميلادا متجددا
وجديدا للغناء الحضرمي المعروف والمشهور.
للفنّان بالفقيه ألحانه
وأيضا للفنان عبد الرب ادريس ولغيرهما أيضا ألحانهم الخاصة بهم، الاّ أنّه
كما يقال فانّ ألحان المحضار غير كلّ الألحان.. ألحان نشأت من خلاصة
البيئة اليمانية لترسم الأصالة العريقة وتحفظ التراث العتيق وتبقي حضارات
تترى على أمّة الغناء اليمني الخالد بينما نلاحظ عند غيره من الملحنين
التداخل والتقليد للأغنية المصرية المعاصرة وكذلك للأغنية الخليجية
المحدثة…
ومن أعجب ما يميّز المحضار في ألحانه عدم عزفه على أية آلة
موسيقية وخاصة العود، وهذا ما يدهش له، إذ أننا سمعنا ورأينا كيف كان دور
العود مع الملحنين الكبار وأهميته عندهم.. هناك السنباطي والقصبجي وفريد
الأطرش ومحمد عبد الوهاب وغيرهم من الأفذاذ. وقد علمنا أهميّة العود في
حياتهم من أجل استنباط واستخراج أعذب النغمات وأرفع المقامات.. لكنّ حال
المحضار مختلف عن كلّ الحالات، فهو نسيج وحده. فقد أغناه إلهام فكره
البديع عن هذه الآلة المساعدة. وكمّا تميّز المحضار في شعره كذلك كان
مميّزا في ألحانه. وقلّما يجاريه أحد من أقرانه في عبقريته وموهبته إلاّ
النذر اليسير جدا من الأسماء.