الثائر في الذاكرة
في أحد أيام تشرين أول أكتوبر من
عام سبعة وستين، ألقي بجثة مشوهة في قبر جماعي، تمنى القتلة ألا يأتي أحدا
لإعادة اعتبار القبر المجهول. اعتقدوا أنهم بتحطيم الرجل سيحطمون أسطورته،
ولكنهم كانوا على خطأ.
عام 1968، غضب شبان العالم وخرجوا
إلى الشوارع معلنين انهم يستطيعون إنهاء الحروب وتغيير ملامح العالم. وقد
تحول هذا الرجل الثائر بعد موته إلى شهيد لقضاياهم. أصبح يمثل أحلام
ورغبات الملايين ممن يحملون صوره.
علما أنه كان يمثل أيضا مجموعة من
التناقضات، وكأن الموت حول ملامحه، ما بوحي بأنه لو منحه أعداؤه الحق في
الحياة، لربما عجزت أسطورته عن احتلال هذا المدى العالمي الذي تنعم به
اليوم.
ثائر عالمي
في الأول من كانون الثاني يناير من
عام 1959 انتصرت ثورة فيديل كاسترو في كوبا. انتشر الآلاف في شوارع هافانا
لاستقبال أبطال الاشتراكية، الذين أطاحوا بالنظام العسكري الفاسد الذي
تدعمه أمريكا.
تمكن كاسترو من صنع المستحيل، وذلك
بمعونة ساعده الأيمن تشي جيفارا. فنشأت بينهما روح الأخوة التي تعمدت
بالنار. تمكنت ثورة كاسترو من تحقيق النصر بالاعتماد على تكتيك حرب
العصابات.
أثبت جيفارا بين الثوار في الجبال
الكوبية، براعته القتالية وكفاءته القيادية في مواجهة الخطر باستعداد ألهم
الجنود من حوله. أدرك كاسترو قدرة تشي على القتال، فكانت هذه الكفاءة
مفتاح تحقيق النصر عام 1959.
حقق فيديل كاسترو حلمه عند انتصار الثورة. أما حلم جيفارا، فكان ما يزال في بدايته بعد.
تخطت أحلام هذا الشاب الأرجنتيني
الثائر حدود جزيرة كوبا، فقد كان يحلم ببناء جنة اشتراكية عالمية، انطلاقا
من أمريكا اللاتينية. أراد رفع علم المساواة في العالم أجمع.
عندما كان يدرس الطب جال في أرجاء القارة ، وتأثر جدا بما رآه من فقر بين سكانها.
كان يحلم بتحرير جميع هؤلاء الناس،
وبعد ثلاثة أسابيع من انتصار فيديل، أعلن أنه يريد مغادرة كوبا، لنشر
الثورة في العالم. تعامل كاسترو مع مشاريعه باحترام، ولكنه وجد أولوياته
في حماية الثورة وتنميتها على أرض الوطن.
اعتمد الاقتصاد الكوبي الذي ورثه
فيديل على تصدير السكر، وتحديدا إلى أمريكا. أراد كاسترو إنهاء هذه
التبعية، وإعادة بناء كوبا كدولة إنسانية متقدمة.
وجد جيفارا نفسه فجأة وزيرا
للاقتصاد. فاتبع سياسة غير رسمية في عمله، يمكن اختصارها بالطريقة البسيطة
التي وقع فيها العملة الكوبية الجديدة. تشي. بساطته وتواضعه ووسامته، جعلت
منه وزير غير اعتيادي للاقتصاد.
أثناء محاولات واشنطن اغتيال كاسترو
بالسيجار الملغوم، كان السوفيت يعززون تحالفهم مع كوبا، لتنشأ علاقة ساهم
بها تشي، على اعتبار أن الاتحاد السوفيتي يحمل النماذج الفكرية
والاقتصادية التي يسعى لتطبيقها في كوبا.
رغم أن جيفارا المحارب والقائد
والزعيم ، لم يكن اقتصاديا، إلا أن مساعيه زرعت روح العمل الجماعي التي ما
زالت سائدة حتى اليوم، وما زال الاقتصاد الكوبي يواجه العوائق الصعاب
الناجمة عن أكثر من أربعين عاما الحصار الأمريكي المجحف ضد كوبا.
كانت ملامح جيفارا الهادئة تتناقض
مع كيانه الداخلي الثائر، فقد عرف عنه المثابرة في العمل ولكن عفته
الشخصية جعلته يصلح لممارسة العمل الاقتصادي بنقاء ونظافة كفه التي قلما
تتوفر اليوم في وزراء الغرب وأتباعه.
في الثامن والعشرين من تشرين أول
أكتوبر من عام اثنين وستين، حبس العالم أنفاسه أثناء خوض كندي في لعبة
الروليت الروسية. حين علم بأن خروتشيف قد وضع صواريخ نووية على أرض كوبا،
أصدر تهديد نهائي بإعلان حرب نووية إن لم يتم انتزاع تلك الصواريخ. بعد
الاتفاق مع واشنطن نزع خروتشيف الصواريخ وأعادها إلى روسيا دون التشاور مع
كوبا.
غضب جيفارا لما اعتبره استخفافا من
قبل خروتشيف لتخطيه سيادة كوبا وزعامتها. كما أغضب ذلك فيديل كاستروا
أيضا، ولكنه نجح كسياسي في ضبط مشاعر الغضب لديه وتسخيرها لتعزيز التحالف
مع السوفييت لما فيه مصلحة كوبا ومستقبل الثورة فيها.
بقي جيفارا على عهده في مقارعة
الأمريكيين ومساعيهم التوسعية في أرجاء العالم مشيرا مسلطا الأضواء على
جميع تحركاتهم المشبوهة في أرجاء العالم، وفي بداية الستينات ألقى في أحد
المحافل الدولية خطابا حذر فيه واشنطن من مغبة الاستمرار في محاولات
الهيمنة الجارية في القارة السمراء فقال:
والآن تسعى القوات الأمريكية إلى
التدخل في الكونغو، ولماذا؟ للتورط في فيتنام أخرى، وكي تتعرض لهزيمة أخرى
دون شك، مهما مر على ذلك من وقت، ولكن هزيمتهم حتمية.
رغم إدراك كاسترو بأهمية التركيز
على تعزز إنجازات الثورة وضمان التقدم والتنمية في كوبا إلا أنه لم يتردد
في احترام قرار جيفارا في تقديم الدعم للحركات الثورية المناهضة لأمريكا
في العالم.
سعى جيفارا لإقامة مجموعات حرب
عصابات في الكونغو، مع أن فكرته لم تلق صدى واسعا لدى بعض القادة، أصر
جيفارا على موقفه، وتموه بملابس رجل أعمال ثري، لينطلق في رحلة طويلة سافر
فيها من بلد إلى آخر ليواجه المصاعب تلو الأخرى. ولكنه لم يتمكن من الوصول
إلى الكنغو التي سعى إليها، فبقيت الثورة هناك حلما يراود أفكاره.
بعد أشهر من حروبه المتعاقبة، نشرت
وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية شائعات تدعي فيها اختفاء إرنستو تشي
غيفارا في ظروف غامضة ومقتله على يد زميله في النضال القائد الكوبي فيديل
كاسترو ما اضطر الزعيم الكوبي للكشف عن الغموض الذي اكتنف اختفائه من
الجزيرة للشعب الكوبي فأدلى بخطابه الشهير الذي ورد بعض أجزائه ما يلي:
لدي هنا رسالة، كتبت بخط اليد، من
الرفيق، إرنيستو جيفارا يقول فيها: أشعر أني أتممت ما لدي من واجبات،
تربطني بالثورة الكوبية على أرضها، لهذا أستودعك، وأستودع الرفاق، وأستودع
شعبك، الذي أصبح شعبي. أتقدم رسميا باستقالتي من قيادة الحزب، ومن منصبي
كوزير، وعن رتبة القائد، وعن جنسيتي الكوبية، لم يعد يربطني شيء قانوني
بكوبا.
أكدت هذه الرسالة إصراره على عدم
العودة إلى كوبا بصفة رسمية، بل كثائر يبحث عن ملاذ آمن بين الحين والآخر.
ثم أوقف مساعيه الثورية في الكونغو وأخذ الثائر فيه يبحث عن قضية عالمية
أخرى.
علق الآمال على قدرته في مساعدة
الفلاحين في حروبهم الثورية من أجل المساواة، فصار حينها يبحث بشغف عن
مكان يتابع منه مواجهة التوسع الأمريكي. تحولت أمريكا اللاتينية إلى هدف
رئيسي لما فيها من فقر ومعاناة وشروط تضمن الظروف اللازمة لاستمرار
الثورة، اختار جيفارا البلد الأكثر تعرضا للهجمة الأمريكية في القارة،
فدعم كاستروا قراره بكل احترام.
وافق فيديل كاسترو على مساعي
جيفارا، فقدم له الدعم اللازم، وساعده في تقديم كل ما يلزم لمتابعة مسيرته
الثورية على طريقته. فانتحل جيفارا هوية رجل أعمال من الأوروغواي وتوجه
إلى بوليفيا التي وجد فيها نقطة انطلاق لحرب ثورية مناهضة للتوسع الأمريكي
وتساهم بنشر الاشتراكية في العالم أجمع.
ولكن المصاعب أخذت تتوالى على
مشروعه الهائل، كانت الحياة صعبة، وفيها بعض الأمل، وكأن الفلاحين ترددوا
في السعي لتغيير الحالة السائدة. عندما وصل جيفارا إلى هناك مع رجاله
يبحثون عن مجندين، لم يجدوا إلا قلة وقفت معهم نتيجة الحملات الدموية التي
أعلنتها الحكومة المؤيدة للولايات المتحدة هناك، والتي أدرك الفلاحين
والهنود أنها لن توفر أحدا في دمويتها المعهودة.
كما ساهمت الدسائس الأمريكية في خلق
نزاعات في أوساط اليساريين أنفسهم كثيرا ما تحدث عنها زعيم الحزب الشيوعي
البوليفي ماريو مونهي في عدة مناسبات محذرا جيفارا من حالة الجزر الثورية
والانقسامات التي تعانيها البلاد في تلك الفترة.
منذ بداية عام 1967، وجد جيفارا
نفسه مع مقاتليه العشرين، وحيدا يواجه وحدات الجيش المدججة بالسلاح بقيادة
السي أي إيه في براري بوليفيا الاستوائية. أراد جيفارا أن يمضي بعض الوقت
في حشد القوى والعمل على تجنيد الفلاحين والهنود من حوله، ولكنه أجبر على
خوض المعارك مبكرا.